ميناء حيفا- اسم يمكن أن يثير المشاعر. إبحار في سفينة فاخرة، مطاعم سمك طازجة من البحر، نوادٍ أضواؤها خافتة، والكبار منّا- يثير الميناء ذاكرة بعيدة عن البضائع المهرّبة من خارج البلاد. لكنّ هناك ميناء حيفا آخر يتبع لسائقي الشاحنات، والميناء لمعظمهم هو اسم مرادف للجحيم. لن تروا هناك سفنًا فاخرة ولا نوادي ليلية. نصل إليه عن طريق بوّابة حيرام (بوّابة رقم 1) في شاطئ شيمن، منطقة تبدو كمنطقة مهجورة مليئة بالخردوات، تسكنها مجموعة من كلاب غامضة اللون متشرّدة. تصل إلى هناك سفن الشحن وتفرّغ حاويات يتمّ تحميلها على آلاف المركبات الثقيلة وشتّى أنواع الشاحنات والرافعات. في الشاحنات الثقيلة، يجلس السائقون الذين يأخذون على عاتقهم المنكسر جزءًا ملحوظًا من اقتصاد الدولة، عديمي الحيلة يحسدون الكلاب المتشرّدة.
انقضت تلك الأيّام التي كان فيها الصغار يحلمون بالعمل سائقين عندما يكبرون، ويغنّون “سيّارتنا كبيرة وخضراء..”. في تلك الأيّام شعر كلّ سائق بأنّه ملك على الشارع. كان الأجر عاليًا (أكثر من 10,000 شيقل في الشهر)، وكان يوم العمل لا يتعدّى 12 ساعة، وكان السائقون منظّمين في لجان عمّال، ولم تجرؤ الشركات على تحدّي العمّال. السائق الذي يصل لتفريغ البضائع، كان يُدعى لغرفة الطعام في المصنع لشرب القهوة وأخذ قسط من الراحة، كان يشعر باحترام الآخرين له ولعمله.
السائق في الوقت الراهن، في أسفل السلّم الاجتماعي، يشعر بمكانته الوضيعة، يخرج قبل شروق الشمس ويقود شاحنته 12 ساعة، ثمّ يطلب منه ضابط النظام في الشركة سفرة أخرى، فيقول له لا استطيع لأنّ ابني يحتفل اليوم بعيد ميلاده، ويردّ عليه بالصراخ، فيضطرّ إلى قبول العمل والعودة إلى البيت بعد حلول الظلام، مخيّبًا أمل أبنائه، تعبًا لا يملك قوّة لزوجته، ثمّ يستيقظ ثانيةً قبل شروق الشمس في اليوم التالي، يطلّق زوجته ويدفع نفقة فيضطرّ للاقتراض، وتصيبه أمراض الظهر وارتفاع ضغط الدم وأمراض القلب، ويقوم بتحميل وتفريغ الشاحنة كالعتّالين والانتظار في المصنع حتّى انتهاء استراحة الصباح أو الظهيرة، ويدفع من جيبه ثمن الشطائر التي يشتريها ليأكل ويتحمّل أعباء العمل، وكلّ هذا مقابل 7,500 شيقل في الشهر بالمعدّل، وأحيانًا أقلّ من ذلك.
السابقة القضائية في حالة سائق الشاحنة الذي توفّي نتيجة لانفجار الشريان الأبهر خلال يوم عمل أطول من العادة، والذي تمّ الاعتراف به كمصاب في حادث عمل، تجسّد طبيعة يوم عمل السائق في هذه الأيّام. كان عمر هذا السائق 61 عامًا، وقد عمل خلال 40 عامًا. بدأ يوم العمل في الساعة 3:30 فجرًا، وفي ساعات الظهر اتّصل بزوجته وقال لها إنّه تعب، لكنّ رئيسه في العمل طلب منه أن يقوم بسفرة أخرى إلى نتيڤوت، في الجنوب. وصل إلى هناك في الساعة 17:30، وعندها انهار وفقد وعيه، وتوفّي عندما وصل إلى مستشفى سوروكا.
ما هي قيمة حياة الإنسان وحياته العائلته ورغباته والاعتراف بإنسانيته؟ كلّها هباء منثور. ثمن الشاحنة الجديدة يبلغ مئات آلاف الشواقل، وأسعار الوقود تحدّدها الحكومة، لكنّ أجر السائقين- أمر قابل للجدل، وبعدم وجود لجنة عمّال، فهذا الأمر محطّ للابتزاز. يتّضح أنّ الشاحنة ليست معدّة لخدمة الإنسان، بل بالعكس، السائق موجود لخدمة الشاحنة، ومن خلالها زيادة أرباح الشركة إلى الحدّ الأقصى، حتّى تستنفد قواه وتلقي به في حاوية النفايات كغرض لا فائدة ترجى منه.
لن أنسى أبدًا الوجه الشاحب لذلك السائق، الذي يبدو في الستّين من عمره على الأقلّ، الذي قال: “عمري 54 سنة فقط، لن يكون بمقدوري أن أقود شاحنتي 13 سنة أخرى حتّى التقاعد”. وقد تذكّر كيف قبل سنوات، غضب وترك الشاحنة في وسط الطريق وأعطى المفاتيح لصاحب مقصف قريب، وذهب للاحتفال بعيد ميلاد ابنه، وليكن ما يكون. هذا هو الحدث الذي ينير ظلام السنين التي تمرّ عليه غاضبًا وشاعرًا بالمهانة، إلى أن ذهبت بروحه وباحترامه لنفسه.
حضر مؤخّرًا إلى مكتب نقابة “معًا” في حيفا، التي تنظّم عمّال فرع الشاحنات، سائق كبير في السنّ، وجلس أمام المحامي وأجهش في البكاء. يعمل هذا السائق في الشركة منذ تسع سنوات، ويعمل أحيانًا في وردية ليلية. قبل بضعة أسابيع توفّي ابنه على أثر نوبة قلبية مفاجئة، وفي أعقاب هذا الحدث الأليم أُصيبت زوجته بكآبة، ولا يمكنها البقاء وحدها في الليل. طلب السائق من الشركة عدم تشغيله في وردية ليلية بصورة مؤقّتة ليتسنّى له مساعدة زوجته. منذ تلك اللحظة أخذ ضبّاط نظام الشركة بالتنكيل به، والمدير صرخ بوجهه ونعته بالجنون، ولم يعطه عملاً خلال عدّة أيّام، وفي نهاية الأمر فصله من العمل. والآن عليه مواجهة فقد الابن وفقدان مصدر رزقه وفقدان الوهم بأن يتعامل المشغّل معه أفضل ممّا يتعامل مع أداة تقود الشاحنة لجني الأرباح.
هل هذا قانوني؟ بالطبع لا! كثير من الأمور التي تحدث في فرع النقل لبست قانونية، لكن من يكترث لهذا؟ القيادة لأكثر من 12 ساعة في اليوم ليست قانونية، لكن هكذا جرت العادة، ومن يرفض يُفصل من عمله. من يصل إلى بوّابة حيرم في شاطئ شيمن، أثناء الازدحام المروري الكبير، في الوقت الذي تنتظر عشرات الشاحنات دورها للدخول إلى الميناء ساعة أو أكثر، بإمكانه الاستماع هناك للكثير من القصص المفزعة، باللغة العبرية وباللغة العربية وباللغة الروسية، أحداثها متشابهة تمامًا، لأنّ هناك مساواة وعدم تكافؤ فرص في الفقر والاستغلال لليهود وللعرب وللقادمين من الاتّحاد السوڤياتي سابقًا.
ولم نتحدّث بعد عن تصرّفات المشغّلين عندما يحاول السائقون إقامة لجنة لهم؛ يفعلون كلّ شيء! بدءًا برجاء السائقين والتهديد بأنّهم على وشك الإفلاس واتّصالات من زوجة صاحب الشركة بالسائقين بأن يشفقوا على زوجها، وإغراءات بمنح قروض (وكلّ السائقين بحاجة لهذه القروض) وحتّى الصراخ والاعتداءات الجسدية والمهانة والفصل. وهذه المسألة هي موضوع لمقال آخر.
روح الحراك الاحتجاجي لم تصل السائقين، وفي بوّابة حيرم يخيّم اليأس والإهمال. لكنّ هذا الوضع لن يستمرّ إلى الأبد، ولن تنعم به شركات النقل (التي أكبرها تتبع لرجل الأعمال الرأسمالي نوحي دنكنر) إلى ما لا نهاية. سيأتي يوم يتخلّص فيه السائقون- اليهود والعرب والروس- من خوفهم ويستعيدون كرامتهم واحترامهم لنفسهم، وعندها ستتحوّل بوّابة حيرم من جحيم إلى مكان إنساني ومثير للمشاعر كسائر المواقع السياحية الجميلة في حيفا.
[sub]*كُتب المقال بقلم ميخال شفارتس لمجلّة روتيت للثقافة الحيفاوية.[/sub]