في يوم الاثنين 26 آذار استيقظ مواطني البلاد على مسمع الخبر بان الاضراب الذي كان مقررا في هذا الصباح تم الغائه وان الحكومة والهستدروت توصلتا الى اتفاق نصّ على تنظيم شركات جديدة فرعية عن شركة القطارات القائمة وادخال راسمال خاص الى هذا القطاع . هذا الاتفاق لم يكن مفاجئا، بالرغم من الخلاف الحاد بين الادارة وبين لجنة العمال والقرارات احادية الجانب من طرف الادارة والوزير، جرت طيلة الشهر الاخير اتصالات مُكثفة بين رئيس الهستدروت وبين الوزير كاتس مما ادى في نهاية المطاف الى اخضاع رئيسة اللجنة العمالية لقبول الاتفاق.
حسب الاتفاق سيتمّ نقل نسبة 30% من فرع الصيانة الى شركة خاصة خارج اطار القطار. كما تم الاتفاق على تشكيل شركتين تعمل في نقل البضائع وفي الممتلكات والتنمية التجارية. وستكون الشركة المتخصصة بنقل البضائع تحت سيطرة شركة خاصّة (نسبة 51%). رئيس إدارة مجلس قطارات إسرائيل، أوري يوچيڤ، حاول إنكار الدلالة الحقيقية للقرار. فقد ادّعى في مقابلات في وسائل الإعلام أنّ تشغيل شبكة الشركات ونقل العمل الى شركات خارجيسيبقى القطار تحت سلطة الحكومة وأنّه لا توجد نيّة لخصخصتها.
هذه الادّعاءات هي ادّعاءات مضلّلة. تقسيم شركة القطارات إلى شركات فرعية وإدخال شركاء من القطاع الخاصّ، وكذلك نقل أعمال صيانة مئات العربات الجديدة إلى جهة خارجية، كلّ هذه الأعمال تشكّل خطوات منهجية للخصخصة على مراحل.
لجنة عمّال القطارات التي تمثّل أكثر من ألفَي عامل، ادركت جيّدًا الدلالة الهدّامة لهذه الخطوات. اللجنة، برئاسة چيلا أدرعي، قامت بحملة جماهيرية واسعة ضدّ الخصخصة. لكنها لم تجد رئيس الهستدروت عوفر عيني يتّخذ موقفًا مناوئًا لهذه الخطّة . إذا أمعنّا النظر في مواقفه وفي الاتّفاق الذي توصّل مع الوزير كاتس، نلاحظ أنّه عمليًّا يؤيّد الخصخصة ويرى ب بالاتفاق تجسيدا لموقفه.
خطّة خصخصة شركة القطارات تستغلّ الأخطاء الكثيرة التي ظهرت في أداء شركة القطارات في السنوات الأخيرة. التقرير الموجّه ضدّ إدارة الشركة عن القطارات في برنامج “همكور” في القناة العاشرة (الثلاثاء – 203) الذي تمّ بثّه يومًا قبل قرار إدارة شركة القطارات، وصف عدم النجاعة في إدارة شركة القطارات بالمقارنة مع ما يحدث في كراجات شركة بومبردييه في بريطانيا. لكنّ المراسل نسي أن يشير إلى أنّ محاولة خصخصة شركة القطارات في بريطانيا قد باءت بالفشل الذريع. كما وحرص على عدم إبراز ادّعاءات العمّال الشديدة التي بحسبها إدارة شركة القطارات تقصد “تجفيف” الكراجات والخدمات لتثبت ادّعاءها القاضي بأنّه لا مفرّ من الخصخصة.
في قاموس مساعدي نتنياهو وموظّفي وزارة المالية، القصد هنا، تقليص نطاق القطاع العامّ (السّمين) لصالح زيادة قوّة القطاع الخاصّ (النحيف). ستستثمر الحكومة في السنوات القليلة القادمة _ما يُقارب مئة مليار شيكل في تطوير بنى تحتية وإضافة خطوط جديدة. وسيبدأ قريبًا مشروع كهربة القطارات الأمر الذي سيحسّن الخدمة كثيرًا. الحديث هنا، عن استثمار هائل من المفروض أن يؤدّي إلى تطوير الضواحي وإلى تقليص نطاق حركة السير على الشوارع وتقليص حوادث الطرق. هذه الخطّة المباركة، بحسب حكومة نتنياهو، يُفترَض بأن تُنفَّذ بواسطة القطاع الخاصّ. وليس وضع الأموال العامّة تحت سيطرة رأسماليين محلّيين وأجانب، الذين سبق لنا وذقنا منهم الأمرّين.
بعد مضيّ عشر سنوات على فشل محاولة خصخصة شركة القطارات في بريطانيا، تحاول حكومة إسرائيل تكرار مغامرة الخصخصة التي خاضتها تاتشر. أيضًا الذريعة هنا ،لجنة العمّال المحاربة. لجنة العمّال برئاسة چيلا أدرعي، تلقّت في الأشهر الأخيرة انتقادات من جهات عدة. ولكن الغريب في الأمر أنّه عندما كانت اللجنة برئاسة شاؤول عوكيش، رئيس اللجنة السابق، لم يتهدّد القطارات خطر الإغلاق. قضى عوكيش وقته في تعيين أقربائه، وحتّى أنّه اتُّهم بأخذ رشوة، لكنّه وافق على التعاون مع الإدارة وأتاح تشغيل عمّال مقاولين في شركة القطارات. بخلاف عوكيش، چيلا أدرعي، التي انتُخبت في شهر آب 2010 بعد تنحيته عن منصبه، والتي تحاول الآن بكلّ قوّتها وقف الخصخصة.
إلاّ أنّها بدلاً من أن تحظى بدعم الهستدروت، تتعرّض مرّة تلو الأخرى للإقصاء من المفاوضات من قِبل رئيس الهستدروت، عوفر عيني. طريقة عيني تعيد نفسها مرّة ثانية، ويبدو أنّها بالتنسيق الكامل مع وزير المواصلات: يقوم كاتس باستفزاز لجنة العمّال؛ وتقوم اللجنة بالإضراب؛ يمثل عيني في محكمة العمل ويعلن عن نيّته إدارة المفاوضات. هذا ما حدث في الصيف الماضي حول مسألة خطّة الأمان، وهذا ما حدث هذه المرّة على ضوء إعلان الوزير عن نيّته نقل صيانة العربات الجديدة إلى جهة خارجية.
خلال شهرين خاض رئيس الهستدروت مفاوضات مع وزير المواصلات، إلى أن توصّلا في مطلع آذار إلى اتّفاقية، كانت نتيجتها- لا شيء سوى خصخصة شركة القطارات. تضمّنت الاتّفاقية نقل صيانة العربات القديمة وقسم من مشروع كهربة القطارات إلى جهة خارجية؛ وإنشاء شركة فرعية بملكية شركة القطارات تدير ممتلكات الشركة؛ ونقل مجال نقل البضائع إلى شركة تحت سلطة جهات خارجية (51%).
رفضت لجنة العمّال هذه الاتّفاقية، رغم اشتمال الاتّفاقية التي عُرضت عليها على بنود تضمّنت زيادات في الأجور تبلغ 25% للعمّال القدامى، بهدف إغرائهم على الموافقة.
وطريقة عيني المميّزة تعيد نفسها: في حين يسارع وزير المواصلات إلى عقد مؤتمر صحفي ويهاجم رئيس لجنة العمّال ويهدّد بوقف العمل في شركة القطارات، يتظاهر عيني “بالغضب” من الوزير. في الواقع عيني راضٍ عن الوضع. بإمكانه الآن إبلاغ لجنة العمّال أنّها إذا لم تقبل اتّفاقيته، فإنّها ستكون المسؤولة عن وقف العمل في القطارات.
كما حدث في إضراب العاملين الاجتماعيين قبل سنة، فشل عيني في وظيفته كقائد للعمّال، ويستغلّ علاقاته مع النخبة السياسية لإجبار العمّال على قبول ترتيب يتماشى مع مصالح الرأسماليين. كما نذكر، رفض العاملون الاجتماعيون الاتّفاقية التي توصّل إليها عيني مع وزارة المالية. لكنّ عيني لم يتنازل وحرص على تحويل القضية إلى محكمة العمل. وهناك تحت ضغوط كبيرة، أجبر اتّحاد العاملين الاجتماعيين على قبول الاتّفاقية التي بلورها، وإلاّ سيضطرّ العاملون الاجتماعيون لبدء المفاوضات من جديد بدونه.
ما يثير الاهتمام هو أنّ هذا النضال جاء بعد شهر من الإضراب الكبير الذي أعلنته الهستدروت ضدّ استغلال عمّال المقاولين. الاتّفاقية التي وقّع عليها عيني مع وزير المالية شتاينيتس بعد الإضراب عُرضت كإنجاز سيؤدّي إلى وقف التشغيل المجحف والخصخصة والتعامل مع جهات خارجية.
اتّضح الآن أنّه لم يكن أيّ اتّفاق من هذا النوع. بل وأكثر من ذلك، الحكومة الآن أكثر إصراراً على العمل من أجل الخصخصة وترى في عيني شريكًا وظيفته تجميل العملية. بدلاً من أن تذهب المليارات المستثمرة لصالح الجمهور، وبدلاً من إجبار الحكومة على توفير آلاف أماكن العمل بهذه الاستثمارات، يتقبّل عيني إملاءات الحكومة دون جدل ويتيح خصخصة شركة القطارات، من خلال تحويل عمّال القطارات إلى مجموعة أخرى من عمّال المقاولين.
الهستدروت برئاسة عوفر عيني تفتقر لرؤيا اجتماعية. مقابل خطط الحكومة للخصخصة وتشغيل الجهات الخارجية، كان حريًّا بمنظّمة عمّالية أن تعرض خططًا بديلة لبناء القطاع العامّ. كلّ قائد عمّالي مخلص، كان سيرى أنّ أهمّ رسالة يقوم بها هي القضاء على الفساد وعدم النجاعة المتفشّية في لجان عمّال الهستدروت. إلاّ أنّه يفضّل الرأسماليين ويُكسب الرأسمالية المتوحّشة تبريرًا ومصادقة من قِبل الهستدروت.