قُتل 46 عامل بناء منذ بداية السنة في حوادث عمل وأُصيب نحو 200 عامل آخر بإصابات خطيرة منذ بداية عام 2016. من بين العمال الذين قتلوا كانت نسبة العمال العرب 70%. هذه الأرقام المخيفة تدل على الوضع المأساوي لعمال البناء – لكنه ليس بالأمر الجديد. ما هو جديد في هذا المضمار هو الحملة الإعلامية غير المسبوقة التي طرحت موضوع حوادث العمل في فرع البناء على جدول العمل الإعلامي والبرلماني في إسرائيل خلال السنة الأخيرة وذلك بشكل رئيسي بفضل مجهود الإئتلاف لمحاربة حوادث العمل في فرع البناء.
ففي حين كان عامل بناء الذي يقتل في الماضي في حادث عمل بمثابة المجهول ولا أحد يعرف اسمه والصحف لا تذكر الحادث في خبر عاجل، لدرجة أن ورشات البناء تستمر بالعمل بعد الحادث كأن شيئاً لم يحدث، فإننا اليوم أمام حالة من الاهتمام والتساؤل حول كل حادث عمل وكل ضحية والصحف تنشر التفاصيل وتسأل الشركات والمقاولين الأسئلة المطلوبة ويتم مرة بعد مرة كشف عورات مقاولي البناء المهملين للوقاية وغياب الرقابة من طرف الجهات الحكومية.
إلّا أنه وفي حين تمكنت عدة جهات حقوقية وعلى رأسها الإئتلاف لمحاربة حوادث العمل في فرع البناء، من إثارة الموضوع في السنة الاخيرة وجعله موضع نقاش إعلامي وشعبي في إسرائيل، فإننا نجد نوعاً من الصمت والسلبية من طرف العمال أنفسهم وسيما العمال العرب.
إغلاق كل شيء في إطار العائلة
هذا الواقع المر يتجلى بكل فظاعته عندما يصاب أو يقتل أحد أفراد العائلة في حادث عمل. في هذه اللحظة تبدأ حملة ضغط وابتزاز من طرف المقاولين بهدف إخفاء الحقيقة حول ملابسات الحادث وشروط العمل في الورشة التي وقع فيها الحادث. في كثير من الحالات هناك حالة كتمان تامة في صفوف العمال الذين كانوا في مكان الحادث وعائلة العامل المصاب أو المقتول وذلك نتيجة سيطرة المقاولون على مصدر رزقهم وشعور العمال وعائلاتهم بأنهم إذا تحدثوا بحرية عن الحادث قد يلحقو الضرر بالمقاول ابن العائلة أو الحمولة أو “إبن البلد”. النتيجة هي أنه في أغلب الحالات وأثناء زيارة بيت عزاء لعائلة عامل قتل في حادث أو أثناء زيارة لعامل أصيب في حادث عمل يمتنع الجميع عن قول الحقيقة عن الإهمال الذي يميز ورشة البناء وغياب المدفعوات الاجتماعية عن قسيمة الأجر.
فى إحدى الحالات الأخيرة التي واجهناها بعد مقتل عامل في حادث مأساوي اقترح أحد الناشطين في نقابة معاً والذي تربطه علاقة صداقة مع عائلة المرحوم أن توكل العائلة في القضية محام مجرب من خارج البلد والذي يعالج باستمرار قضايا عمال البناء أمام مؤسسة التامين الوطني وشركات التامين وأمام المقاولين. بناء على هذا الاقتراح تم الاتفاق على تنظيم لقاء بين أفراد العائلة وبين المحامي لتوكيله في القضية علماً بأن المحامي المذكور له اختصاص في الموضوع وليست له أية علاقة مع المقاول أو مع الشركة التي عمل لديها العامل المرحوم مما يسمح له في التحقق من ملابسات الحادث بشكل موضوعي ومقاضاة المسؤولين. إلّا أنه وفي اللحظة الأخيرة ألغت عائلة العامل المرحوم اللقاء مع المحامي بعد أن تمكن المقاول الذي كان يعمل المرحوم عنده من “إقناع” العائلة بتوكيل محام مقرب منه في القضية ومنع تدخل المحامي “الخارجي”.
في قضية أخرى تبين خلال زيارة إلى بيت العزاء للعائلة في إحدى القرى العربية في المثلث بعد حادث عمل أودى بحياة شاب في العشرينات من عمره، أن أشقاء العامل المرحوم يستمرون في العمل لدى نفس المقاول الذي أدى إهماله إلى الحادث المأساوي. وعندما سُئلوا لماذا لم يتركو العمل عند نفس المقاول كان الجواب – كل المقاولين يعملون بنفس الطريقة ولذلك فإن الانتقال إلى مقاول آخر لا ينفع بشيء. ويعني ذلك أن اخوة المرحوم في هذه الحالة يمتنعون عن مقاضاة المقاول لأنهم ما زالو يعملون عنده ويريدون بالتالي أن يحافظوا على علاقة جيدة معه.
المحامي محمد دحلة المختص في حوادث العمل ويدافع عن عمال بناء كثيرين من داخل إسرائيل ومن الضفة الغربية يقول عن هذه الظاهرة: “في عملي مع العمال أواجه حالات مشابهة يومياً. يجب الانتباه إلى أنه من أجل الحصول على التعويض جراء حادث العمل يجب على العامل المصاب أو أفراد عائلة العامل المقتول أن يقدموا شكوى إلى المحكمة بهدف إثبات أنه كانت هناك حالة من الإهمال من طرف المقاول الرئيسي أو الفرعي أو كلاهما. فما نجده كثيرا عند العمال الذين يعملون لدى مقاول فرعي تجمعهم به صلة قرابة يمتنع هؤلاء العمال عن تقديم الدعوى ضده وضد الشركة الأساسية التي تدير الورشة – النتيجة هي ان العائلات المنكوبة تبقى بعد الحادث الماساوي دون السند الاقتصادي لمواجهة المصيبة الكبرى.
دحلة: “زد على ذلك أن الأجر الرسمي الذي يتقاضاه العمال هو عادة الحد الأدنى للأجور حيث يتفق المقاول مع العمال على قسائم أجر منخفضة للتهرب من الضريبة ومن تكاليف أخرى ويقوم بتعويضهم من خلال أجر “أسود” لا يسجل في قسيمة الأجر. النتيجة هي أنه حتى في حالة حصول العامل على حقوقه فسيكون ذلك مبنيا على أجر منخفض وفي النتيجة ستكون التعويضات أقل بكثير من المبلغ الحقيقي الذي يستحقه هذا العامل.
آفة المقاولين الفرعيين
يعكس هذا الارتباط العضوي بين العمال والمقاولين تركيبة قوة العمل والتحولات البنيوية التي مر بها فرع البناء في إسرائيل خلال 30 عام. فبدل التشغيل المباشر من قبل شركات البناء الإسرائيلية الكبرى الذي تميز بشروط عمل جيدة ونظام عمل حمى العمال إنتقل فرع البناء منذ تسعينيات القرن الماضي إلى التشغيل بواسطة المقاولين الفرعيين. في الواقع فإن شركات البناء الكبرى لا تشغل اليوم العمال بل تنقل التنفيذ الفعلي إلى مقاولين فرعيين مما يعزز سيطرة هؤلاء المقاولين الصغار على العمال وهيمنتهم شبه التامة عن شروط العمل.
عن شروط العقود بين الشركات الكبرى وبين المقاولين يقول السيد حسن شولي، مسؤول الآمان في العمل الذي يعمل في فرع البناء منذ أكثر من 25 عاما: “الوضع الحالي في فرع البناء خطير ومقلق. المقاولون الفرعيون الذين يتنافسون بين يعضهم للحصول على المناقصات مضطرون لقبول العمل بأسعار زهيدة ومضحكة. في الكثير من الحالات يصل المقاول إلى حالة أزمة ويوقف العمل في نصف الطريق لأنه لا يستطيع الصمود أمام شروط الدفع – تأجيل الشيكات بشهور – أو لأي سبب فني آخر. واضح بالنسبة لي في هذه الحالة لماذا يتم تشغيل العمال بطرق غير رسمية ودون حقوق اجتماعية ودون قسيمة أجر حقيقية. في طبيعة الحال يستحيل في هذه الظروف أن يوظف المقاول الفرعي الموارد الضرورية للحفاظ على قوانين وأوامر الوقاية والكثيرون يتنازلون عن الحاجة لإرشاد العمال بشكل صحيح ولتخصيص قوة عمل كافية في كل ورشة لبناء وصيانة الجدران الواقية والسقايل ونظافة الورشة وضمان سلامة العمال الآخرين.”
فرضة للعمال لاسماع صوتهم
عندما نفهم أن زيادة الحوادث هي أمر كان يمكن منعه من خلال تغيير أسلوب العمل سيكون واضحا لماذا يجب أن نرفض الاعتقاد الراسخ لدى العمال بأن حوادث العمل هي نتيجة القضاء والقدر. إن الحملة الإعلامية التي بدأت في الفترة الأخيرة يجب أن نراها كفرصة لكي ننفض الغبار ونرفع صوت عمال البناء عالياً. هناك عدد كبير من العمال الذين يشاركون في هذه الحملة ويشاركون الأخبار في صفحات الفيسبوك المختلفة الخاصة في قضايا حوادث العمل وذلك يدل دون شك عن بداية التغيير وعن شعور العمال بأن صرختهم مسموعة وسيكون لها صدى.
يجب ان ندرك بإن السكوت والتراجع أمام الضغط العائلي هو فخ وسينتج عنه المزيد من المآسي. نحن نعيش في العصر الحديث في عام 2016 ونقترب من 2017 وكل عامل يحمل بيده هاتف حديث يمكّنه من تسجيل وتوثيق كل ما يدور في الورشة. لا يمكن أن يقبل هذا العامل بتصرفات وعادات -تليق بالقرون الوسطى- تُخضع حياته ومصيره للحَمولة أو للعائلة. حان الوقت لوقف التضليل بحق عمال البناء وكرامتهم.